فصل: الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ (فِي الْمَعَانِي الْإِجْمَالِيَّةِ وَالْمَعَانِي التَّفْصِيلِيَّةِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


الجزء الأول

‏[‏الْمُقَدِّمَةُ‏]‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنَا بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ، وَهَدَانَا بِالِاسْتِبْصَارِ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَمَايَةِ الضَّلَالَةِ، وَنَصَبَ لَنَا مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ أَعْلَى عِلْمٍ وَأَوْضَحَ دَلَالَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ، وَالْمِنَحِ الْجَلِيلَةِ، وَأَنَالَهُ، فَلَقَدْ كُنَّا قَبْلَ شُرُوقِ هَذَا النُّورِ نَخْبِطُ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ، وَتَجْرِي عُقُولُنَا فِي اقْتِنَاصِ مَصَالِحِنَا عَلَى غَيْرِ السَّوَاءِ؛ لِضَعْفِهَا عَنْ حَمْلِ هَذِهِ الْأَعْبَاءِ، وَمُشَارَكَةِ عَاجِلَاتِ الْأَهْوَاءِ، عَلَى مَيْدَانِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْمُنْقَلَبَيْنِ مَدَارُ الْأَسْوَاءِ، فَنَضَعُ السُّمُومَ عَلَى الْأَدْوَاءِ مَوَاضِعَ الدَّوَاءِ، طَالِبِينَ لِلشِّفَاءِ، كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، وَلَا زِلْنَا نَسْبَحُ بَيْنَهُمَا فِي بَحْرِ الْوَهْمِ فَنَهِيمُ، وَنَسْرَحُ مِنْ جَهْلِنَا بِالدَّلِيلِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ، وَنَسْتَنْتِجُ الْقِيَاسَ الْعَقِيمَ، وَنَطْلُبُ آثَارَ الصِّحَّةِ مِنَ الْجِسْمِ السَّقِيمِ، وَنَمْشِي إِكْبَابًا عَلَى الْوُجُوهِ، وَنَظُنُّ أَنَّا نَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ حَتَّى ظَهَرَ مَحْضُ الْإِجْبَارِ فِي عَيْنِ الْأَقْدَارِ، وَارْتَفَعَتْ حَقِيقَةُ أَيْدِيِ الِاضْطِرَارِ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ أَهْلِ الِافْتِقَارِ، لَمَّا صَحَّ مِنْ أَلْسِنَةِ الْأَحْوَالِ صِدْقُ الْإِقْرَارِ، وَثَبَتَ فِي مُكْتَسَبَاتِ الْأَفْعَالِ حُكْمُ الِاضْطِرَارِ، فَتَدَارَكَنَا الرَّبُّ الْكَرِيمُ بِلُطْفِهِ الْعَظِيمِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا الْبَرُّ الرَّحِيمُ بِعَطْفِهِ الْعَمِيمِ؛ إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ مِنْ دُونِهِ حِيَلًا، وَلَمْ نَهْتَدِ بِأَنْفُسِنَا سُبُلًا، بِأَنْ جَعَلَ الْعُذْرَ مَقْبُولًا، وَالْعَفْوَ عَنِ الزَّلَّاتِ قَبْلَ بَعْثِ الرِّسَالَاتِ مَأْمُولًا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْأُمَمِ، كَلٌّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ مِنْ عَرَبٍ أَوْ عَجَمٍ؛ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ مِنْ أَمَمٍ، وَيَأْخُذُوا بِحُجَزِهِمْ عَنْ مَوَارِدِ جَهَنَّمَ، وَخَصَّنَا مَعْشَرَ الْآخَرِينَ السَّابِقِينَ، بِلَبِنَةِ تَمَامِهِمْ، وَمِسْكِ خِتَامِهِمْ؛ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ الْمُسْدَاةُ، وَالرَّحْمَةُ الْمُهْدَاةُ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْأُمِّيَّةُ، وَالنُّخْبَةُ الطَّاهِرَةُ الْهَاشِمِيَّةُ، أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْعَرَبِيَّ الْمُبِينَ، الْفَارِقَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَوَضَعَ بَيَانَهُ الشَّافِيَ وَإِيضَاحَهُ الْكَافِيَ فِي كَفِّهِ، وَطَيَّبَهُ بِطِيبِ ثَنَائِهِ وَعَرَّفَهُ بِعَرْفِهِ؛ إِذْ جَعَلَ أَخْلَاقَهُ وَشَمَائِلَهُ جُمْلَةَ نَعْتِهِ، وَكُلِّيَّ وَصْفِهِ، فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَفِعْلِهِ وَكَفِّهِ؛ فَوَضَحَ النَّهَارُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، شَمْسًا مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ وَلَا غَيْنٍ‏.‏

فَنَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَالْحَمْدُ نِعْمَةٌ مِنْهُ مُسْتَفَادَةٌ، وَنَشْكُرُ لَهُ وَالشُّكْرُ أَوَّلُ الزِّيَادَةِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَبَاسِطُ الرِّزْقِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ، بَسْطًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ، وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ، جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 56- 58‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

كُلُّ ذَلِكَ لِيَتَفَرَّغُوا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ عَرْضًا، فَلَمَّا تَحَمَّلُوهَا عَلَى حُكْمِ الْجَزَاءِ؛ حَمَلُوهَا فَرْضًا، وَيَا لَيْتَهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشْفَاقِ وَالْإِبَايَةِ، وَتَأَمَّلُوا فِي الْبِدَايَةِ خَطَرَ النِّهَايَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ خَطَرُهَا عَلَى بَالٍ، كَمَا خَطَرَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْإِنْسَانُ ظَلُومًا جَهُولًا، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَبَانَةِ شَاهَدُ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ‏}‏‏.‏

فَسُبْحَانَ مَنْ أَجْرَى الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ؛ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَقَادِيرِهِ؛ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ فِيمَا يَعْمَلُونَ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ‏.‏

وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، الصَّادِقُ الْأَمِينُ، الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، بِمِلَّةٍ حَنِيفِيَّةٍ، وَشِرْعَةِ الْحَاكِمِينَ بِهَا حَفِيَّةً، يَنْطِقُ بِلِسَانِ التَّيْسِيرِ بَيَانُهَا، وَيُعْرَفُ أَنَّ الرِّفْقَ خَاصِّيَّتُهَا وَالسَّمَاحَ شَأْنُهَا، فَهِيَ تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ فَهِيمًا وَغَبِيًّا، وَتَدْعُوهُمْ بِنِدَاءٍ مُشْتَرِكٍ دَانِيًا وَقَصِيًّا، وَتَرْفُقِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مُطِيعًا وَعَصِيًّا، وَتَقُودُهُمْ بِخَزَائِمِهِمْ مُنْقَادًا وَأَبِيًّا، وَتُسَوِّي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْعَدْلِ شَرِيفًا وَدَنِيًّا، وَتُبَوِّئُ حَامِلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَكَانًا عَلِيًّا، وَتُدْرِجُ النُّبُوءَةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَتُلْبِسُ الْمُتَّصِفِ بِهَا مَلْبَسًا سَنِيًّا، حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ وَلِيًّا، فَمَا أَغْنَى مَنْ وَالَاهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، وَمَا أَفْقَرَ مَنْ عَادَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا‏.‏

فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو بِهَا وَإِلَيْهَا، وَيَبُثُّ لِلثَّقَلَيْنِ مَا لَدَيْهَا، وُيُنَاضِلُ بِبَرَاهِينِهَا عَلَيْهَا، وَيَحْمِي بِقَوَاطِعِهَا جَانِبَيْهَا، بَالِغَ الْغَايَةِ فِي الْبَيَانِ، بِقَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِه‏:‏ «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ فَحَصَّلُوهَا، وَأَسَّسُوا قَوَاعِدَهَا وَأَصَّلُوهَا، وَجَالَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي آيَاتِهَا، وَأَعْمَلُوا الْجِدَّ فِي تَحْقِيقِ مَبَادِيهَا وَغَايَاتِهَا، وَعُنُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِاطِّرَاحِ الْآمَالِ، وَشَفَّعُوا الْعِلْمَ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَسَابَقُوا إِلَى الْخَيِّرَاتِ فَسَبَقُوا، وَسَارَعُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ فَمَا لُحِقُوا، إِلَى أَنْ طَلَعَ فِي آفَاقِ بَصَائِرِهِمْ شَمْسُ الْفُرْقَانِ، وَأَشْرَقَ فِي قُلُوبِهِمْ نُورُ الْإِيقَانِ، فَظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ مِنْهَا عَلَى اللِّسَانِ، فَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَرَعَ ذَلِكَ الْبَابَ، فَصَارُوا خَاصَّةَ الْخَاصَّةِ، وَلُبَابَ اللُّبَابِ، وَنُجُومًا يَهْتَدِي بِأَنْوَارِهِمْ أُولُو الْأَلْبَابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الَّذِينَ خَلَفُوهُمْ قُدْوَةً لِلْمُقْتَدِينَ، وَأُسْوَةً لِلْمُهْتَدِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ‏.‏

أَمَّا بَعْدُ؛ أَيُّهَا الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ أَعْلَى الْعُلُومِ، الطَّالِبُ لِأَسْنَى نَتَائِجِ الْحُلُومِ، الْمُتَعَطِّشُ إِلَى أَحْلَى مَوَارِدِ الْفُهُومِ، الْحَائِمُ حَوْلَ حِمًى ظَاهِرِ الْمَرْسُومِ؛ طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ بَاطِنِهِ الْمَرْقُومِ، مَعَانِيَ مَرْتُوقَةٍ، فِي فَتْقِ تِلْكَ الرُّسُومِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُصْغِيَ إِلَى مَنْ وَافَقَ هَوَاكَ هَوَاهُ، وَأَنْ تُطَارِحَ الشَّجَى مَنْ مَلَكَهُ- مِثْلَكَ- شَجَاهُ، وَتَعُودَ؛ إِذْ شَارَكْتَهُ فِي جَوَاهُ مَحَلَّ نَجْوَاهُ؛ حَتَّى يَبُثَّ إِلَيْكَ شَكْوَاهُ، لِتَجْرِيَ مَعَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ حَيْثُ جَرَى، وَتَسْرِيَ فِي غَبَشِهِ الْمُمْتَزِجِ ضَوْءُهُ بِالظُّلْمَةِ كَمَا سَرَى، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ تَحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَاقِبَةَ السُّرَى‏.‏

فَلَقَدْ قَطَعَ فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ مَهَامِهَ فِيحًا، وَكَابَدَ مِنْ طَوَارِقِ طَرِيقِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا، وَلَاقَى مِنْ وُجُوهِهِ الْمُعْتَرِضَةِ جَهْمًا وَصَبِيحًا، وَعَانَى مِنْ رَاكِبَتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مَانِعًا وَمُبِيحًا؛ فَإِنْ شِئْتَ أَلْفَيْتَهُ لِتَعَبِ السَّيْرِ طَلِيحًا، أَوْ لِمَا حَالَفَ مِنَ الْعَنَاءِ طَرِيحًا، أَوْ لِمُحَارَبَةِ الْعَوَارِضِ الصَّادَّةِ جَرِيحًا، فَلَا عَيْشَ هَنِيئًا، وَلَا مَوْتَ مُرِيحًا‏.‏

وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي التَّحْقِيق‏:‏ أَنَّ أَدْهَى مَا يَلْقَاهُ السَّالِكُ لِلطَّرِيقِ فَقْدُ الدَّلِيلِ، مَعَ ذِهْنٍ لِعَدَمِ نُورِ الْفَرْقَانِ كَلِيلٍ، وَقَلْبٍ بِصَدَمَاتِ الْأَضْغَاثِ عَلِيلٍ؛ فَيَمْشِي عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، وَيَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ قَبِيلٍ، إِلَى أَنْ مَنَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ، الْهَادِي- مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَبُعِثَتْ لَهُ أَرْوَاحُ تِلْكَ الْجُسُومِ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ الرُّسُومِ، وَبَدَتْ مُسَمَّيَاتُ تِلْكَ الْوُسُومِ؛ فَلَاحَ فِي أَكْنَافِهَا الْحَقُّ وَاسْتَبَانَ، وَتَجَلَّى مِنْ تَحْتِ سَحَابِهَا شَمْسُ الْفُرْقَانِ وَبَانَ، وَقَوِيَتِ النَّفْسُ الضَّعِيفَةُ وَشَجُعَ الْقَلْبُ الْجَبَانُ، وَجَاءَ الْحَقُّ فَوَصَلَ أَسْبَابَهُ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ فَبَانَ، فَأَوْرَدَ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ، وَفَوَائِدِهِ الْغَرِيبَةِ الْبُرْهَانِ، وَبَدَائِعِهِ الْبَاهِرَةِ لِلْأَذْهَانِ- مَا يَعْجِزُ عَنْ تَفْصِيلِ بَعْضِ أَسْرَارِهِ الْعَقْلُ، وَيَقْصُرُ عَنْ بَثِّ مِعْشَارِهِ اللِّسَانُ، إِيرَادًا يُمَيِّزُ الْمَشْهُورَ مِنَ الشَّاذِّ، وَيُحَقِّقُ مَرَاتِبَ الْعَوَامِّ وَالْخَوَاصِّ وَالْجَمَاهِيرِ وَالْأَفْذَاذِ، وَيُوَفِّي حُقَّ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالسَّالِكِ وَالْمُرَبِّي وَالتِّلْمِيذِ وَالْأُسْتَاذِ، عَلَى مَقَادِيرِهِمْ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ وَالتَّوَانِي وَالِاجْتِهَادِ وَالْقُصُورِ وَالنَّفَاذِ، وَيُنْزِلُ كُلًّا مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ حَلَّ، وَيُبَصِّرُهُ فِي مَقَامِهِ الْخَاصِّ بِهِ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ، وَيَحْمِلُهُ فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ مَجَالُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ، وَيَأْخُذُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ الِاسْتِصْعَادِ وَالِاسْتِنْزَالِ، لِيَخْرُجُوا مِنِ انْحِرَافَيِ التَّشَدُّدِ وَالِانْحِلَالِ، وَطَرَفَيِ التَّنَاقُضِ وَالْمُحَالِ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَجِبُ لِجَلَالِهِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى جَمِيلِ إِنْعَامِهِ وَجَزِيلِ إِفْضَالِهِ‏.‏

وَلَمَّا بَدَا مِنْ مَكْنُونِ السِّرِّ مَا بَدَا وَوَفَّقَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ وَهَدَى- لَمْ أَزَلْ أُقَيِّدُ مِنْ أَوَابِدِهِ، وَأَضُمُّ مِنْ شَوَارِدِهِ تَفَاصِيلَ وَجُمَلًا، وَأَسُوقُ مِنْ شَوَاهِدِهِ فِي مَصَادِرِ الْحُكْمِ وَمَوَارِدِهِ، مُبَيِّنًا لَا مُجْمِلًا، مُعْتَمِدًا عَلَى الِاسْتِقْرَاءَاتِ الْكُلِّيَّةِ، غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ، وَمُبَيِّنًا أُصُولَهَا النَّقْلِيَّةَ بِأَطْرَافٍ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ، حَسْبَمَا أَعْطَتْهُ الِاسْتِطَاعَةُ وَالْمِنَّةُ، فِي بَيَانِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَظْمِ تِلْكَ الْفَرَائِدِ، وَجَمْعِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ، إِلَى تَرَاجِمَ تَرُدُّهَا إِلَى أُصُولِهَا، وَتَكُونُ عَوْنًا عَلَى تَعَقُّلِهَا وَتَحْصِيلِهَا؛ فَانْضَمَّتْ إِلَى تَرَاجِمِ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ، وَانْتَظَمَتْ فِي أَسْلَاكِهَا السَّنِيَّةِ الْبَهِيَّةِ، فَصَارَ كِتَابًا مُنْحَصِرًا فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي تَمْهِيدِ الْمَقْصُودِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ فِي الْأَحْكَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرُهَا وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْ عَلَيْهَا، كَانَتْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ فِي حَصْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ، وَذِكْرِ مَآخِذِهَا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالْمُتَّصِفِينَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ‏.‏

وَفِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَسَائِلُ وَتَمْهِيدَاتٌ، وَأَطْرَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ؛ يَتَقَرَّرُ بِهَا الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ، وَيَقْرُبُ بِسَبَبِهَا تَحْصِيلُهُ لِلْقُلُوبِ‏.‏

وَلِأَجَلِّ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، سَمَّيْتُهُ بِـ ‏[‏عُنْوَانُ التَّعْرِيفِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ‏]‏، ثُمَّ انْتَقَلْتُ عَنْ هَذِهِ السِّيمَاءِ لِسَنَدٍ غَرِيبٍ يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْهُ الْفَطِنُ الْأَرِيبُ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي لَقِيتُ يَوْمًا بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنِّي مَحَلَّ الْإِفَادَةِ، وَجَعَلْتُ مَجَالِسَهُمُ الْعِلْمِيَّةَ مَحَطًّا لِلرَّحْلِ وَمُنَاخًا لِلْوِفَادَةِ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ وَتَصْنِيفِهِ، وَنَابَذْتُ الشَّوَاغِلَ دُونَ تَهْذِيبِهِ وَتَأْلِيفِهِ؛ فَقَالَ لِي‏:‏ رَأَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ، وَفِي يَدِكَ كِتَابٌ أَلَّفْتَهُ فَسَأَلْتُكَ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ كِتَابُ ‏[‏الْمُوَافَقَاتِ‏]‏، قَالَ‏:‏ فَكُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الظَّرِيفَةِ، فَتُخْبِرُنِي أَنَّكَ وَفَّقْتَ بِهِ بَيْنَ مَذْهَبَيِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي حَنِيفَةَ‏.‏ فَقُلْتُ لَهُ لَقَدْ أَصَبْتُمُ الْغَرَضَ بِسَهْمٍ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ مُصِيبٍ، وَأَخَذْتُمْ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِجُزْءٍ صَالِحٍ وَنَصِيبٍ؛ فَإِنِّي شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ هَذِهِ الْمَعَانِي، عَازِمًا عَلَى تَأْسِيسِ تِلْكَ الْمَبَانِي؛ فَإِنَّهَا الْأُصُولُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَوَاعِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ، فَعَجِبَ الشَّيْخُ مِنْ غَرَابَةِ هَذَا الِاتِّفَاقِ، كَمَا عَجِبْتُ أَنَا مِنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ وَصُحْبَةِ هَذِهِ الرِّفَاقِ، لِيَكُونَ- أَيُّهَا الْخِلُّ الصَّفِّيُّ، وَالصَّدِيقُ الْوَفِيُّ- هَذَا الْكِتَابُ عَوْنًا لَكَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَشَارِحًا لِمَعَانِي الْوِفَاقِ وَالتَّوْفِيقِ، لَا لِيَكُونَ عُمْدَتَكَ فِي كُلِّ تَحَقُّقٍ وَتَحْقِيقٍ، وَمَرْجِعَكَ فِي جَمِيعِ مَا يَعِنُّ لَكَ مِنْ تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ؛ إِذْ قَدْ صَارَ عِلْمًا مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ، وَرَسْمًا كَسَائِرِ الرُّسُومِ، وَمَوْرِدًا لِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَتَعَارُضِ الْفُهُومِ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَرَّبَ عَلَيْكَ فِي الْمَسِيرِ، وَأَعْلَمَكَ كَيْفَ تَرْقَى فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَى أَيْنَ تَسِيرُ، وَوَقَفَ بِكَ مِنَ الطَّرِيقِ السَّابِلَةِ عَلَى الظَّهْرِ، وَخَطَبَ لَكَ عَرَائِسَ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ وَهَبَ لَكَ الْمَهْرَ‏.‏

فَقَدِّمْ قَدَمَ عَزْمِكَ؛ فَإِذَا أَنْتَ بِحَوْلِ اللَّهِ قَدْ وَصَلْتَ، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا قِبَلَكَ مِنْهُ؛ فَهَا أَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَدْ فُزْتَ بِمَا حَصَّلْتَ، وَإِيَّاكَ وَإِقْدَامَ الْجَبَانِ، وَالْوُقُوفَ مَعَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَالْإِخْلَادَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّصْمِيمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَفَارِقْ وَهَدَ التَّقْلِيدِ رَاقِيًا إِلَى يَفَاعِ الِاسْتِبْصَارِ، وَتَمَسَّكْ مِنْ هَدْيِكَ بِهِمَّةٍ تَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْمُدَافَعَةِ وَالِاسْتِنْصَارِ، إِذَا تَطَلَّعَتِ الْأَسْئِلَةُ الضَّعِيفَةُ وَالشُّبَهُ الْقِصَارُ، وَالْبَسِ التَّقْوَى شِعَارًا، وَالِاتِّصَافَ بِالْإِنْصَافِ دِثَارًا، وَاجْعَلْ طَلَبَ الْحَقِّ لَكَ نِحْلَةً، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ لِأَهْلِهِ مِلَّةً، لَا تَمْلِكْ قَلْبَكَ عَوَارِضُ الْأَغْرَاضِ، وَلَا تُغَيِّرْ جَوْهَرَةَ قَصْدِكَ طَوَارِقُ الْإِعْرَاضِ، وَقِفْ وَقْفَةَ الْمُتَخَيِّرِينَ، لَا وَقْفَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ، إِلَّا إِذَا اشْتَبَهَتِ الْمَطَالِبُ، وَلَمْ يَلُحْ وَجْهُ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ، فَلَا عَلَيْكَ مِنَ الْإِحْجَامِ وَإِنْ لَجَّ الْخُصُومُ، فَالْوَاقِعُ فِي حِمَى الْمُشْتَبِهَاتِ هُوَ الْمَخْصُومُ، وَالْوَاقِفُ دُونَهَا هُوَ الرَّاسِخُ الْمَعْصُومُ، وَإِنَّمَا الْعَارُ وَالشَّنَارُ عَلَى مَنِ اقْتَحَمَ الْمَنَاهِيَ فَأَوْرَدَتْهُ النَّارَ، لَا تَرِدْ مَشْرَعَ الْعَصَبِيَّةِ، وَلَا تَأْنَفْ مِنَ الْإِذْعَانِ إِذَا لَاحَ وَجْهُ الْقَضِيَّةِ أَنَفَةَ ذَوِي النُّفُوسِ الْعَصِيَّةِ، فَذَلِكَ مَرْعًى لِسَوَامِهَا وَبِيلٌ، وَصُدُودٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏.‏

فَإِنْ عَارَضَكَ دُونَ هَذَا الْكِتَابِ عَارِضُ الْإِنْكَارِ، وَعَمِيَ عَنْكَ وَجْهُ الِاخْتِرَاعِ فِيهِ وَالِابْتِكَارِ، وَغَرَّ الظَّانَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ، وَلَا أُلِّفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ مَا نُسِجَ عَلَى مِنْوَالِهِ أَوْ شُكِّلَ بِشَكْلِهِ، وَحَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاعُهُ؛ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْإِشْكَالِ دُونَ اخْتِبَارٍ، وَلَا تَرْمِ بِمَظِنَّةِ الْفَائِدَةِ عَلَى غَيْرِ اعْتِبَارٍ؛ فَإِنَّهُ بِحَمْدِ اللَّهِ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ، وَشَدَّ مَعَاقِدَهُ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ، وَرَسَمَ مَعَالِمَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَحْبَارُ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ، وَإِذَا وَضُحَ السَّبِيلُ لَمْ يَجِبِ الْإِنْكَارُ، وَوَجَبَ قَبُولُ مَا حَوَاهُ وَالِاعْتِبَارُ بِصِحَّةِ مَا أَبْدَاهُ وَالْإِقْرَارُ، حَاشَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ، وَيَطْرُقُ صِحَّةَ أَفْكَارِهِمْ مِنَ الْعِلَلِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ سَقَطَاتُهُ، وَالْعَالِمُ مَنْ قَلَّتْ غَلَطَاتُهُ‏.‏

وَعِنْدَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ، إِذَا وَجَدَ فِيهِ نَقْصًا أَنْ يُكْمِلَ، وَلْيُحْسِنِ الظَّنَّ بِمَنْ حَالَفَ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ، وَاسْتَبْدَلَ التَّعَبَ بِالرَّاحَةِ وَالسَّهَرَ بِالْمَنَامِ، حَتَّى أَهْدَى إِلَيْهِ نَتِيجَةَ عُمْرِهِ، وَوَهَبَ لَهُ يَتِيمَةَ دَهْرِهِ، فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِ مَقَالِيدَ مَا لَدَيْهِ، وَطَوَّقَهُ طَوْقَ الْأَمَانَةِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْبَيَانِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»‏.‏

جَعَلَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَامِلِينَ بِمَا عَلِمْنَا، وَأَعَانَنَا عَلَى تَفْهِيمِ مَا فَهِمْنَا، وَوَهَبَ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا يُبَلِّغُنَا رِضَاهُ، وَعَمَلًا زَاكِيًا يَكُونُ عُدَّةً لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ‏.‏

وَهَا أَنَا أَشْرَعُ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، وَآخُذُ فِي إِنْجَازِ ذَلِكَ الْمَوْعُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ‏.‏

‏[‏الْقِسْمُ الْأَوَّلُ‏]‏ تَمْهِيدُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ

وَهِيَ بِضْعَ عَشَرَ مُقَدِّمَةً‏:‏

الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى‏:‏ ‏[‏أُصُولُ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ‏]‏

إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ؛ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَطْعِيٌّ‏.‏

بَيَانُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْقَطْعِ‏.‏

وَبَيَانُ الثَّانِي‏:‏ مِنْ أَوْجُهٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أُصُولٍ عَقْلِيَّةٍ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ، وَإِمَّا إِلَى الِاسْتِقْرَاءِ الْكُلِّيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ قَطْعِيٌّ أَيْضًا، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ إِلَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ قَطْعِيٌّ، وَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً؛ لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى أَمْرٍ عَقْلِيٍّ؛ إِذِ الظَّنُّ لَا يُقْبَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا إِلَى كُلِّيٍّ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّاتِ؛ إِذْ لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ؛ لَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ الْكُلِّيُّ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَادَةً- وَأَعْنِي بِالْكُلِّيَّاتِ هُنَا‏:‏ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْحَاجِيَّاتِ، وَالتَّحْسِينِيَّاتِ- وَأَيْضًا لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ؛ لَجَازَ تَعَلُّقُ الشَّكِّ بِهَا، وَهِيَ لَا شَكَّ فِيهَا، وَلَجَازَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا ضَمِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِفْظِهَا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ أَصْلًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ لَجَازَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَنِسْبَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ؛ فَقَدِ اسْتَوَتْ فِي أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حِفْظِ الدِّينِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالظَّنِّ، لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَلَمْ نُتَعَبَّدْ بِالظَّنِّ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ مِنَ الْأُصُولِ تَفَاصِيلَ الْعِلَلِ، كَالْقَوْلِ فِي عَكْسِ الْعِلَّةِ، وَمُعَارَضَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَتَفَاصِيلَ أَحْكَامِ الْأَخْبَارِ، كَأَعْدَادِ الرُّوَاةِ، وَالْإِرْسَالِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ‏.‏

وَاعْتَذَرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا دَاخِلَةٌ بِالْمَعْنَى فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ‏.‏

قَالَ الْمَازِرِيُّ‏:‏ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّحَاشِي عَنْ عَدِّ هَذَا الْفَنِّ مِنَ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينُ كُلِّيَّاتٍ وُضِعَتْ لَا لِأَنْفُسِهَا، لَكِنْ لِيُعْرَضَ عَلَيْهَا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَهِيَ فِي هَذَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ قَالَ‏:‏ وَيَحْسُنُ مِنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنْ لَا يَعُدَّهَا مِنَ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ عِنْدَهُ ‏[‏هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُ‏]‏ مَا يُفْضِي إِلَى الْقَطْعِ، وَأَمَّا الْقَاضِي؛ فَلَا يَحْسُنُ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ‏.‏ هَذَا مَا قَالَ‏.‏

وَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَظْنُونًا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الْإِخْلَافِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الدِّينِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَالْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ الْمَضْمُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ حِفْظُ أُصُولِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏ أَيْضًا، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسَائِلُ الْجُزْئِيَّةُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْحِفْظِ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْجَوَازِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوُقُوعُ؛ لِتَفَاوُتِ الظُّنُونِ، وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النُّصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ، وَوُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهَا قَطْعًا، فَقَدْ وُجِدَ الْخَطَأُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي مَعَانِي الْآيَاتِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ مِنْهُ كُلِّيًّا، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ قَطْعِيًّا‏.‏

هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْمَعَالِي، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي؛ فَإِنَّ إِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الْفِقْهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهَا، وَاخْتِبَارِهَا بِهَا، وَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا، لِأَنَّكَ أَقَمْتَهَا مَقَامَ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، بِحَيْثُ تُطْرَحُ الْأَدِلَّةُ إِذَا لَمْ تَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينَ لِغَيْرِهَا‏؟‏

وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَادَةٍ لِأَنْفُسِهَا حَتَّى يُسْتَهَانَ بِطَلَبِ الْقَطْعِ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا حَاكِمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ بِهَا فِي رُتْبَتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ قَوَانِينَ، وَأَيْضًا، لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا ظَنِّيَّةً؛ لَزِمَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ فَالِاصْطِلَاحُ اطَّرَدَ عَلَى أَنَّ الْمَظْنُونَاتِ لَا تُجْعَلُ أُصُولًا، وَهَذَا كَافٍ فِي اطِّرَاحِ الظَّنِّيَّاتِ مِنَ الْأُصُولِ بِإِطْلَاقٍ، فَمَا جَرَى فِيهَا مِمَّا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقَطْعِيِّ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ بِالتَّبَعِ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏.‏

الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ ‏[‏الْمُقَدِّمَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِيهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قَطْعِيَّةً‏]‏

إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُعْتَمَدَةَ فِيهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قَطْعِيَّةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةٌ لَمْ تُفِدِ الْقَطْعَ فِي الْمَطَالِبِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَهَذَا بَيَّنٌ، وَهِيَ‏:‏ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ؛ كَالرَّاجِعَةِ إِلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الثَّلَاثَة‏:‏ الْوُجُوبِ، وَالْجَوَازِ، وَالِاسْتِحَالَةِ‏.‏

وَإِمَّا عَادِيَّةٌ، وَهِيَ تَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ أَيْضًا؛ إِذْ مِنَ الْعَادِيِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الْعَادَةِ أَوْ جَائِزٌ أَوْ مُسْتَحِيلٌ‏.‏

وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ، وَأَجَلُّهَا الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي اللَّفْظِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ أَوْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الْمَعْنَى- أَوِ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ‏.‏

فَإِذَا الْأَحْكَامُ الْمُتَصَرِّفَةُ فِي هَذَا الْعِلْمِ لَا تَعْدُو الثَّلَاثَةَ‏:‏ الْوُجُوبَ، وَالْجَوَازَ، وَالِاسْتِحَالَةَ، وَيَلْحَقُ بِهَا الْوُقُوعُ أَوْ عَدَمُ الْوُقُوعِ، فَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْءِ حُجَّةً أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ فَرَاجِعٌ إِلَى وُقُوعِهِ كَذَلِكَ؛ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَذَلِكَ؛ وَكَوْنُهُ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ؛ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَّلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا؛ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُصُولٌ، فَمَنْ أَدْخَلَهَا فِيهَا فَمِنْ بَابِ خَلْطِ بَعْضِ الْعُلُومِ بِبَعْضٍ‏.‏

الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏اسْتِعْمَالُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأُصُولِ مُرْتَبِطٌ مَعَ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ‏]‏

الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْعِلْمِ؛ فَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً عَلَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، أَوْ مُعِينَةً فِي طَرِيقِهَا، أَوْ مُحَقِّقَةً لِمَنَاطِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا نَظَرٌ فِي أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِشَارِعٍ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمُعْتَمَدُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَوُجُودُ الْقَطْعِ فِيهَا- عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ- مَعْدُومٌ أَوْ فِي غَايَةِ النُّدُورِ ‏[‏أَعْنِي‏:‏ فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ‏]‏؛ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ فَعَدَمُ إِفَادَتِهَا الْقَطْعَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً؛ فَإِفَادَتُهَا الْقَطْعَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ جَمِيعُهَا أَوْ غَالِبُهَا ظَنِّيٌّ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا؛ فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ، وَالْإِضْمَارِ، وَالتَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ، وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ مَعَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَذِّرٌ، وَقَدِ اعْتَصَمَ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهَا بِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا، لَكِنْ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أَوْ مَنْقُولَةٌ؛ فَقَدْ تُفِيدُ الْيَقِينُ، وَهَذَا كُلُّهُ نَادِرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ‏.‏

وَإِنَّمَا الْأَدِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هُنَا الْمُسْتَقْرَأَةُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ تَضَافَرَتْ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى أَفَادَتْ فِيهِ الْقَطْعَ؛ فَإِنَّ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِافْتِرَاقِ، وَلِأَجْلِهِ أَفَادَ التَّوَاتُرُ الْقَطْعَ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ، فَإِذَا حَصَلَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ؛ فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، بَلْ هُوَ كَالْعِلْمِ بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُودِ حَاتِمٍ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمَا‏.‏

وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمَا، قَطْعًا، وَإِلَّا فَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَجْرَدِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ، لَكِنْ حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ مَا صَارَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ ضَرُورِيًّا فِي الدِّينِ، لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا شَاكٌّ فِي أَصْلِ الدِّينِ‏.‏

وَمِنْ هَاهُنَا اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا عَلَى دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَقَاطِعٌ لِهَذِهِ الشَّوَاغِبِ‏.‏

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَدِلَّةَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً أَوْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَسَاقِ؛ لِأَنَّ أَدِلَّتَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةُ الْمَسَاقِ، لَا تَرْجِعُ إِلَى بَابٍ وَاحِدٍ؛ إِلَّا أَنَّهَا تَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَى النَّاظِرِ الْأَدِلَّةُ عَضَّدَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَصَارَتْ بِمَجْمُوعِهَا مُفِيدَةً لِلْقَطْعِ؛ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهِيَ مَآخِذُ الْأُصُولِ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ رُبَّمَا تَرَكُوا ذِكْرَ هَذَا الْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ إِغْفَالُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ فَاسْتَشْكَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَاتِ عَلَى حِدَتِهَا، وَبِالْأَحَادِيثِ عَلَى انْفِرَادِهَا؛ إِذْ لَمْ يَأْخُذْهَا مَأْخَذَ الِاجْتِمَاعِ، فَكَّرَ عَلَيْهَا بِالِاعْتِرَاضِ نَصًّا نَصًّا، وَاسْتَضْعَفَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْقَطْعُ، وَهِيَ إِذَا أُخِذَتْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ غَيْرُ مُشْكِلَةٍ، وَلَوْ أُخِذَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مَأْخَذَ هَذَا الْمُعْتَرِضِ؛ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا قَطْعٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَلْبَتَّةَ؛ إِلَّا أَنْ نُشْرِكَ الْعَقْلَ، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الشَّرْعِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِانْتِظَامِ فِي تَحْقِيقِ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ‏.‏

فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ، بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ- وَهِيَ‏:‏ الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ، وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ، بَلْ عُلِمَتْ مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ، وَأَنْ يَرْجِعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ظَنِّيٌّ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فِي التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ خَبَرَ وَاحِدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَخْبَارِ، كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ هُنَا؛ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ عَلَى فَرْضِ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ، وَأَحْوَالِ دَلَالَاتِ الْمَنْقُولَاتِ، وَأَحْوَالِ النَّاظِرِينَ فِي قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِهِ، وَكَثْرَةِ الْبَحْثِ وَقِلَّتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

فَنَحْنُ إِذَا نَظَرْنَا فِي الصَّلَاةِ؛ فَجَاءَ فِيهَا‏:‏ ‏{‏أَقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ عَلَى وُجُوهٍ، وَجَاءَ مَدْحُ الْمُتَّصِفِينَ بِإِقَامَتِهَا، وَذَمُّ التَّارِكِينَ لَهَا، وَإِجْبَارُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِهَا وَإِقَامَتِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَقِتَالُ مَنْ تَرَكَهَا أَوْ عَانَدَ فِي تَرْكِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ النَّفْسُ‏:‏ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا، وَجُعِلَ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ الْمَقْرُونَةِ بِالشِّرْكِ كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ مَقْرُونَةً بِالْإِيمَانِ، وَوَجَبَ سَدُّ رَمَقِ الْمُضْطَرِّ، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ وَالْقِيَامُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ، وَأُقِيمَتِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ وَالْمُلُوكُ لِذَلِكَ، وَرُتِّبَتِ الْأَجْنَادُ لِقِتَالِ مَنْ رَامَ قَتْلَ النَّفْسِ، وَوَجَبَ عَلَى الْخَائِفِ مِنَ الْمَوْتِ سَدُّ رَمَقِهِ بِكُلِّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، إِلَى سَائِرِ مَا يَنْضَافُ لِهَذَا ‏[‏الْمَعْنَى‏]‏- عَلِمْنَا يَقِينًا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمَ الْقَتْلِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ‏.‏

وَبِهَذَا امْتَازَتِ الْأُصُولُ مِنَ الْفُرُوعِ؛ إِذْ كَانَتِ الْفُرُوعُ مُسْتَنِدَةً إِلَى آحَادِ الْأَدِلَّةِ وَإِلَى مَآخِذَ مُعَيَّنَةٍ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى الظَّنِّ، بِخِلَافِ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ بِإِطْلَاقٍ، لَا مِنْ آحَادِهَا عَلَى الْخُصُوصِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في إِلْمَاحَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ‏]‏

وَيَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ نَصٌّ مُعَيَّنٌ، وَكَانَ مُلَائِمًا لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَمَأْخُوذًا مَعْنَاهُ مِنْ أَدِلَّتِهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ يُبْنَى عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَصْلُ قَدْ صَارَ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّتِهِ مَقْطُوعًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْحُكْمِ بِانْفِرَادِهَا دُونَ انْضِمَامِ غَيْرِهَا إِلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمُتَعَذِّرِ‏.‏

وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا ضَرْبُ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لِلْفَرْعِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ؛ فَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ كُلِّيٌّ؛ وَالْأَصْلُ الْكُلِّيُّ إِذَا كَانَ قَطْعِيًّا قَدْ يُسَاوِي الْأَصْلَ الْمُعَيَّنَ، وَقَدْ يَرْبُو عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ وَضَعْفِهِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَرْجُوحًا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، حُكْمَ سَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعَيَّنَةِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ، يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَرْجِعُ إِلَى ‏[‏تَقْدِيمِ‏]‏ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَصْلِ الْأَعَمِّ عَلَى الْفَرْعِ الْأَخَصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَعَمَّ كُلِّيٌّ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ جُزْئِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَالْأَعَمُّ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْأَخَصِّ؛ فَالشَّرْعُ وَإِنِ اعْتُبِرَ كُلِّيَّ الْمَصْلَحَةِ، مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ الْكُلِّيَّ إِذَا انْتَظَمَ فِي الِاسْتِقْرَاءِ ‏[‏يَكُونُ‏]‏ كُلِّيًّا جَارِيًا مَجْرَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْرَادِ، ‏[‏أَمَّا كَوْنُهُ كُلِّيًّا؛ فَلَمَّا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَجْرَى مَجْرَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْرَادِ‏]‏ فَلِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ اقْتِضَاءِ وُقُوعِهِ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَمِنْ هُنَالِكَ اسْتُنْبِطَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتُنْبِطَ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْوَاقِعَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَهُوَ كُلِّيٌّ فِي تَعَلُّقِهِ، فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْأَمْرِ بِهِ وَالنَّهْيِ لِلْجَمِيعِ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا اعْتِبَارُ كُلِّ مَصْلَحَةٍ مُوَافِقَةٍ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالِفَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْمُوَافَقَةِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ مَصَالِحَ مِنْ حَيْثُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ كَذَلِكَ- حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ‏[‏بِحَوْلِ اللَّهِ‏]‏‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّةٌ أَمْ قَطْعِيَّةٌ‏]‏

وَقَدْ أَدَّى عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا قَبْلَهُ إِلَى أَنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ؛ إِذْ لَمْ يَجِدْ فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ بِانْفِرَدِهَا مَا يُفِيدُهُ الْقَطْعُ، فَأَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَمَالَ أَيْضًا بِقَوْمٍ آخَرِينَ إِلَى تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْأَخْذِ بِأُمُورٍ عَادِيَّةٍ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخَرُ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ عَرَضَ فِيهَا ‏[‏هَذَا الْإِشْكَالَ فَادَّعَى فِيهَا‏]‏ أَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ بِحَسَبِ هَذَا التَّرْتِيبِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ وَاضِحٌ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-‏.‏

الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ لِبِنَاءِ الْفُرُوعِ أَوِ الْآدَابِ أَوْ عَوْنًا عَلَيْهَا‏]‏

كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرْسُومَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا فُرُوعٌ فِقْهِيَّةٌ أَوْ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ لَا تَكُونُ عَوْنًا فِي ذَلِكَ؛ فَوَضْعُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَارِيَةٌ‏.‏

وَالَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يَخْتَصَّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِقْهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لَهُ، وَمُحَقِّقًا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِأَصْلٍ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ فِقْهِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ كَعِلْمِ النَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالِاشْتِقَاقِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَالْعَدَدِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَالْحَدِيثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا تَحْقِيقُ الْفِقْهِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ ‏[‏كُلُّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْفِقْهُ يُعَدُّ مِنْ أُصُولِهِ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يُضَافُ إِلَى الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ- فَلَيْسَ‏]‏ بِأَصْلٍ لَهُ‏.‏

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَدْخَلُوهَا فِيهَا؛ كَمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ، وَمَسْأَلَةِ الْإِبَاحَةِ؛ هَلْ هِيَ تَكْلِيفٌ أَمْ لَا، وَمَسْأَلَةِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ، وَمَسْأَلَةِ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا، وَمَسْأَلَةِ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، ثُمَّ الْبَحْثُ فِيهِ فِي عَمَلِهِ وَإِنِ انْبَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ، كَفُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّحْوِ، نَحْوَ مَعَانِي الْحُرُوفِ، وَتَقَاسِيمِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، وَالْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَعَلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَرَادِفِ، وَالْمُشْتَقِّ، وَشِبْهِ ذَلِكَ‏.‏

غَيْرَ أَنَّهُ يُتَكَلَّمُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَسْأَلَةٍ هِيَ عَرِيقَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ ‏[‏الْكَرِيمَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَجَمِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ‏]‏ عَرَبِيٌّ، وَالسُّنَّةُ عَرَبِيَّةٌ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَعْجَمِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا يَشْتَمِلُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَرَبِيٌّ، بِحَيْثُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا التَّحْقِيقَ سُلِكَ بِهِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَسْلَكَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِيهَا وَمَنَازِعِهَا فِي أَنْوَاعِ مُخَاطِبَاتِهَا خَاصَّةً؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ مَا يُعْطِيهِ الْعَقْلُ فِيهَا، لَا بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنْ طَرِيقِ الْوَضْعِ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في خَطَّأِ فَهْمِ النُّصُوصِ بِالْعَقْلِ لَا بِطَرِيقَةِ الْوَضْعِ‏]‏

وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ؛ فَوَضْعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِبْطَالِهِ عَارِيَةٌ أَيْضًا، كَالْخِلَافِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْمُحَرَّمِ الْمُخَيَّرِ؛ فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مُوَافِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاعْتِقَادِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّرٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَهُ تَقْرِيرٌ أَيْضًا، وَهُوَ‏:‏ هَلِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ أَوْ غَيْرُهُمَا رَاجِعَةٌ إِلَى صِفَاتِ الْأَعْيَانِ أَوْ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ‏؟‏ وَكَمَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَضُوهَا مِمَّا لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ مَا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاعْتِقَادِ ‏[‏يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَأَيْضًا‏]‏ يَنْبَنِي عَلَيْهِ عِصْمَةُ الدَّمِ وَالْمَالِ، وَالْحُكْمُ بِالْعَدَالَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى مَا دُونَهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، هُوَ مِنْ عِلْمِ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ هَذَا جَارٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ؛ فَلْيَكُنْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا تَقَدَّمَ‏.‏

الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏الخوض في كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ‏]‏

كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ؛ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَأَعْنِي بِالْعَمَل‏:‏ عَمَلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ يُعْرِضُ عَمَّا لَا يُفِيدُ عَمَلًا مُكَلَّفًا بِهِ؛ فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيم‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَمَلُ؛ إِعْرَاضًا عَمَّا قَصَدَهُ السَّائِلُ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْهِلَال‏:‏ لِمَ يَبْدُو فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ دَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ يَمْتَلِئُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فِي التَّمْثِيلِ إِتْيَانٌ لِلْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا، وَالْبِرُّ إِنَّمَا هُوَ التَّقْوَى، لَا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيدُ نَفْعًا فِي التَّكْلِيفِ، وَلَا تَجُرُّ إِلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مَرْسَاهَا‏:‏ ‏{‏فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا‏}‏ أَيْ‏:‏ إِنَّ السُّؤَالَ عَنْ هَذَا سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي؛ إِذْ يَكْفِي مِنْ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ السَّاعَةِ؛ قَالَ لِلسَّائِل‏:‏ «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا‏؟‏» إِعْرَاضًا عَنْ صَرِيحِ سُؤَالِهِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَلَمْ يُجِبْهُ عَمَّا سَأَلَ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ سَأَلَ‏:‏ مَنْ أَبِي‏؟‏ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ يَوْمًا يُعْرَفُ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ؛ فَقَالَ‏:‏ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُوكَ حُذَافَةُ‏.‏ فَنَزَلَتْ»‏.‏

وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ صِفَاتِ الْبَقَرَة‏:‏ لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجْرِي الْكَلَامُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عِنْدَ مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ سَأَلَ‏:‏ أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ‏؟‏ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ؛ لَوَجَبَتْ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِه‏:‏ «فَذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُمْ هُنَا زِيَادَةٌ لَا فَائِدَةَ عَمَلٍ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ سَكَتُوا لَمْ يَقِفُوا عَنْ عَمَلٍ، فَصَارَ السُّؤَالُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ‏.‏

وَمِنْ هُنَا «نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُفِيدُ، وَقَدْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ السَّاعَةِ؛ فَقَالَ‏:‏ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»؛ فَأَخْبَرَهُ أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ، «وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَلَمَّا كَانَ يَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ أَمَارَاتِهَا الْحَذَرُ مِنْهَا وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَارَاتِهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ عِنْدَهَا؛ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِتَعْرِيفِهِ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ دِينَهُمْ؛ فَصَحَّ إِذًا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمْ فِي فَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ ‏[‏أَعْنِي عِلْمَ زَمَانِ إِتْيَانِهَا‏]‏؛ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ وَفَائِدَةِ سُؤَالِهِ لَهُ عَنْهَا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»، وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُحَرَّمْ؛ فَمَا فَائِدَةُ السُّؤَالِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ‏؟‏ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب‏:‏ ‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 31‏]‏ وَقَالَ‏:‏ «هَذِهِ الْفَاكِهَةُ؛ فَمَا الْأَبُّ‏؟‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ»‏.‏ وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيم‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي التَّكْلِيفِ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مَلَّةً، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا‏.‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَهُوَ كَالنَّصِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا سَأَلُوا، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّؤَالُ إِلَّا فِيمَا يُفِيدُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً فَقَالُوا‏:‏ حَدِّثْنَا حَدِيثًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ؛ فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ‏.‏

انْظُرِ الْحَدِيثَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِأَبِي عُبَيْدٍ‏.‏

وَتَأَمَّلْ خَبَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ صَبِيغٍ فِي سُؤَالِهِ النَّاسَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَتَأْدِيبَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ‏.‏

وَقَدْ سَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 1- 2‏]‏ إِلَخْ؛ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ‏:‏ وَيْلَكَ سَلْ تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا، ثُمَّ أَجَابَهُ؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاء‏:‏ أَفَرَأَيْتَ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَعْمَى سَأَلَ عَنْ عَمْيَاءَ‏.‏، ثُمَّ أَجَابَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ طُولٌ‏.‏

وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَيَحْكِي كَرَاهِيَّتَهُ عَمَّنْ تَقَدَّمَ‏.‏

وَبَيَانُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ شُغْلٌ عَمَّا يَعْنِي مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ الَّذِي طُوِّقَهُ الْمُكَلَّفُ بِمَا لَا يَعْنِي؛ إِذْ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَائِدَةٌ؛ لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُ فِي تَدْبِيرِ رِزْقِهِ وَلَا يَنْقُصُهُ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ عَنْهُ فِي الْحَالِ؛ فَلَا تَفِي مَشَقَّةَ اكْتِسَابِهَا وَتَعَبَ طَلَبِهَا، بِلَذَّةِ حُصُولِهَا، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً فِي الدُّنْيَا، فَمِنْ شَرْطِ كَوْنِهَا فَائِدَةً شَهَادَةُ الشَّرْعِ لَهَا بِذَلِكَ، وَكَمْ مِنْ لَذَّةٍ وَفَائِدَةٍ يَعُدُّهَا الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ؛ وَلَيْسَتْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَّا عَلَى الضِّدِّ، كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ عَاجِلٌ، فَإِذًا قَطَعَ الزَّمَانَ فِيمَا لَا يَجْنِي ثَمَرَةً فِي الدَّارَيْنِ، مَعَ تَعْطِيلِ مَا يَجْنِي الثَّمَرَةَ مِنْ فِعْلِ مَالَا يَنْبَغِي‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِبَيَانِ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ثَمَرَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْفِتْنَةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيَثُورُ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالنِّزَاعُ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّعَصُّبِ، حَتَّى تَفَرَّقُوا شِيَعًا، وَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَرَجُوا عَنِ السُّنَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ التَّفَرُّقِ إِلَّا بِهَذَا السَّبَبِ؛ حَيْثُ تَرَكُوا الِاقْتِصَارَ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَعْنِي، وَخَرَجُوا إِلَى مَا لَا يَعْنِي، فَذَلِكَ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَالْعَالِمِ، وَإِعْرَاضُ الشَّارِعِ- مَعَ حُصُولِ السُّؤَالِ- عَنِ الْجَوَابِ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مِثْلِهِ مِنَ الْعِلْمِ- فِتْنَةٌ أَوْ تَعْطِيلٌ لِلزَّمَانِ فِي غَيْرِ تَحْصِيلٍ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ تَتَبُّعَ النَّظَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَطَلُّبَ عِلْمِهِ- مِنْ شَأْنِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا بِتَعَلُّقِهِمْ بِمَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، فَاتِّبَاعُهُمْ فِي نِحْلَةٍ هَذَا شَأْنُهَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، وَانْحِرَافٌ عَنِ الْجَادَّةِ‏.‏

وَوُجُوهُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ كَثِيرَةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْعِلْمُ مَحْبُوبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَطْلُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ جَاءَ الطَّلَبُ فِيهِ عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَتَنْتَظِمُ صِيغُهُ كُلَّ عِلْمٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ؛ فَتَخْصِيصُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ، وَأَيْضًا؛ فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ‏:‏ إِنَّ تَعَلُّمَ كُلِّ عِلْمٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالسِّحْرِ، وَالطَّلْسَمَاتِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الْبَعِيدَةِ الْغَرَضِ عَنِ الْعَمَلِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا قَرُبَ مِنْهُ، كَالْحِسَابِ، وَالْهَنْدَسَةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا؛ فَعِلْمُ التَّفْسِيرِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ، وَقَدْ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَتَأَمَّلْ حِكَايَةَ الْفَخْرِ الرَّازِيّ‏:‏ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ مَرَّ بِيَهُودِيٍّ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُسْلِمٌ يَقْرَأُ عَلَيْهِ عِلْمَ هَيْئَةِ الْعَالَمِ، فَسَأَلَ الْيَهُودِيَّ عَمَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَنَا أُفَسِّرُ لَهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ‏.‏ فَسَأَلَهُ مَا هِيَ‏؟‏ وَهُوَ مُتَعَجِّبٌ، فَقَالَ‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ‏}‏ قَالَ الْيَهُودِيُّ‏:‏ فَأَنَا أُبَيِّنُ لَهُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا، وَتَزْيِينِهَا‏.‏ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَالِمُ مِنْهُ‏.‏ هَذَا مَعْنَى الْحِكَايَةِ لَا لَفْظُهَا‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 185‏]‏ يَشْمَلُ كُلَّ عِلْمٍ ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ، مِنْ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ مُكْتَسَبٍ أَوْ مَوْهُوبٍ، وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَيَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَلْسَفَةِ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ حَيْثُ تَدُلُّ عَلَى صَانِعِهَا، وَمَعْلُومٌ طَلَبُ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الِاسْتِحْسَانِ فِي كُلِّ عِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّل‏:‏ إِنَّ عُمُومَ الطَّلَبِ مَخْصُوصٌ، وَإِطْلَاقَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَالَّذِي يُوَضِّحُهُ أَمْرَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَمْ يَخُوضُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ تَحْتَهَا عَمَلٌ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُمَرُ ذَلِكَ فِي نَحْو‏:‏ ‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 31‏]‏ مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ، وَتَأْدِيبُهُ صَبِيغًا ظَاهِرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُضْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ، وَلَا نَكْتُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا» إِلَى نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ هُنَالِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

وَعَنِ الثَّانِي‏:‏ إِنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا فَرْضُ الْكِفَايَةِ رَدُّ كُلِّ فَاسِدٍ وَإِبْطَالُهُ، عُلِمَ ذَلِكَ الْفَاسِدُ أَوْ جُهِلَ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ أَنَّهُ فَاسِدٌ، وَالشَّرْعُ مُتَكَفِّلٌ بِذَلِكَ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ عِلْمَ السِّحْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ، مَعَ أَنَّهُ بَطَلَ عَلَى يَدَيْهِ بِأَمْرٍ هُوَ أَقْوَى مِنَ السِّحْرِ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ؛ خَافَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَخَفْ كَمَا لَمْ يَخَفِ الْعَالِمُونَ بِهِ، وَهُمُ السَّحَرَةُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى‏}‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وَهَذَا تَعْرِيفٌ بَعْدَ التَّنْكِيرِ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ، وَالَّذِي كَانَ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِي دَعْوَاهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِذَا حَصَلَ الْإِبْطَالُ، وَالرَّدُّ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ، وَلَوْ بِخَارِقَةٍ عَلَى يَدِ وَلِيٍّ لِلَّهِ أَوْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ نَاشِئٍ عَنْ فُرْقَانِ التَّقْوَى؛ فَهُوَ الْمُرَادُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إِذًا طَلَبُ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْعُلُومِ مِنَ الشَّرْعِ‏.‏

وَعَنِ الثَّالِث‏:‏ إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مَطْلُوبٌ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلُّفٌ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ عُمَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ ‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 31‏]‏ تَوَقَّفَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ، وَهُوَ مَعْنًى إِفْرَادِيٌّ لَا يَقْدَحُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ فِي عِلْمِ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ فِي الْآيَةِ؛ إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ طَعَامِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ أَصْنَافًا كَثِيرَةً مِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً؛ كَالْحَبِّ، وَالْعِنَبِ، وَالزَّيْتُونِ، وَالنَّخْلِ، وَمِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِهِ بِوَاسِطَةٍ، مِمَّا هُوَ مَرْعًى لِلْأَنْعَامِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَبَقِيَ التَّفْصِيلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ فَضْلًا؛ فَلَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عُدَّ الْبَحْثُ عَنْ مَعْنَى الْأَبِّ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَإِلَّا؛ فَلَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ مِنْ جِهَتِهِ لَمَا كَانَ مِنَ التَّكَلُّفِ، بَلْ مِنَ الْمَطْلُوبِ عِلْمُهُ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّاسُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 47‏]‏؛ فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ الْهُذَلِيُّ بِأَنَّ التَّخَوُّفَ فِي لُغَتِهِمُ التَّنَقُّصُ، وَأَنْشَدَهُ شَاهِدًا عَلَيْه‏:‏

تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا *** كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ

فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَحَافِلِ النَّاسِ عَنْ مَعْنَى‏:‏ ‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا‏}‏ ‏[‏الْمُرْسَلَات‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا‏}‏ ‏[‏النَّازِعَات‏:‏ 3‏]‏ مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ بِنَاءِ عَمَلٍ عَلَيْهِ؛ أَدَّبَ عُمَرُ صَبِيغًا بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ‏.‏

فَإِذًا تَفْسِيرُ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ- غَيْرُ سَائِغٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَالَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهَا، وَعَلَى مَعْهُودِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ عِلْمٍ يُعْزَى إِلَى الشَّرِيعَةِ لَا يُؤَدِّي فَائِدَةَ عَمَلٍ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، فَقَدْ تَكَلَّفَ أَهْلُ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا- الِاحْتِجَاجَ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ فِي عُلُومِهِمْ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعَدَدِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وَأَهْلُ ‏[‏النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ أَوِ الْهَنْدَسِيَّةِ‏]‏ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏مِائَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 65‏]‏ إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ‏.‏

وَأَهْلُ الْكِيمِيَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ ‏[‏الرَّعْد‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَأَهْلُ التَّعْدِيلِ النُّجُومِيِّ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَأَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وَعَلَى بَعْضِ الضُّرُوبِ الْحَمْلِيَّةِ، وَالشُّرْطِيَّةِ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ‏.‏

وَأَهْلُ خَطِّ الرَّمْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 4‏]‏، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَسْطُورٌ فِي الْكُتُبِ، وَجَمِيعُهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَبِهِ تَعْلَمُ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 185‏]‏ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ عُلُومُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ لِلْعَرَبِ بِهَا، وَلَا يَلِيقُ بِالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيُّ بِمِلَّةٍ سَهْلَةٍ سَمْحَةٍ، وَالْفَلْسَفَةُ عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا جَائِزَةُ الطَّلَبِ- صَعْبَةُ الْمَأْخَذِ، وَعِرَةُ الْمَسْلَكِ، بَعِيدَةُ الْمُلْتَمَسِ، لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِتَعَلُّمِهَا كَيْ تَتَعَرَّفَ آيَاتِ اللَّهِ، وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ لِلْعَرَبِ النَّاشِئِينَ فِي مَحْضِ الْأُمِّيَّةِ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، مُنَبَّهٌ عَلَى ذَمِّهَا بِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ‏.‏

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ؛ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فِي الشَّرْعِ‏.‏

فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ، كَأَلْفَاظِ اللُّغَةِ، وَعِلْمِ النَّحْوِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبٌ، إِمَّا شَرْعًا، وَإِمَّا عَقْلًا، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، لَكِنْ هُنَا مَعْنًى آخَرُ لَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ‏:‏

الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ ‏[‏فِي الْمَعَانِي الْإِجْمَالِيَّةِ وَالْمَعَانِي التَّفْصِيلِيَّةِ‏]‏

وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ قَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ تَقْرِيبِيٌّ يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، وَإِنْ فُرِضَ تَحْقِيقًا‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ، فَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ، أَوْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ؛ فَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فَقِيلَ‏:‏ هُوَ التَّنَقُّصُ، أَوْ مَعْنَى الْكَوْكَبِ فَقِيلَ‏:‏ هَذَا الَّذِي نُشَاهِدُهُ بِاللَّيْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَيَحْصُلُ فَهْمُ الْخِطَابِ مَعَ هَذَا الْفَهْمِ التَّقْرِيبِيِّ حَتَّى يُمْكِنَ الِامْتِثَالُ‏.‏

وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»؛ فَفَسَّرَهُ بِلَازِمِهِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَمَا تُفَسَّرُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمُرَادِفَاتِهَا لُغَةً، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَظْهَرَ فِي الْفَهْمِ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ، وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَالشَّرِيعَةُ عَرَبِيَّةٌ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أُمِّيَّةٌ؛ فَلَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا الْأُمِّيُّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مَشْرُوحًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

فَإِذًا التَّصَوُّرَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَاتٌ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الْبَيَانَاتِ الْقَرِيبَةِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ وَهُوَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ؛ فَعَدَمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْجُمْهُورِ أَخْرَجَهُ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَسَالِكَهُ صَعْبَةُ الْمَرَامِ، ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏ كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ، فَأُحِيلَ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَغْمَضَ مِنْهُ، وَهُوَ مَاهِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْمَادَّةِ أَصْلًا، أَوْ يُقَالُ‏:‏ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ ذُو نِهَايَةٍ وَنُطْقٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ طُلِبَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ فَقِيلَ‏:‏ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ الْمَائِتُ، أَوْ يُقَالُ‏:‏ مَا الْكَوْكَبُ‏؟‏ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ بَسِيطٌ كُرِيٌّ، مَكَانُهُ الطَّبِيعِيُّ نَفْسُ الْفَلَكِ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنِيرَ، مُتَحَرِّكٌ عَلَى الْوَسَطِ، غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَيْهِ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ؛ فَيُقَالُ‏:‏ هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِرْمِ الْحَاوِي، الْمُمَاسُّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ أَزْمِنَةٍ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى هَذَا، وَلَا كَلَّفَ بِهِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا تَسَوُّرٌ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَصْحَابُهُ بِصُعُوبَتِهِ، بَلْ قَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا أَنْ لَا يُعَرَّفَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ إِذِ الْجَوَاهِرُ لَهَا فُصُولٌ مَجْهُولَةٌ، وَالْجَوَاهِرُ عُرِّفَتْ بِأُمُورٍ سَلْبِيَّةٍ؛ فَإِنَّ الذَّاتِيَّ الْخَاصَّ إِنْ عُلِمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَكَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْحِسِّ فَهُوَ مَجْهُولٌ؛ فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ الْخَاصُّ بِغَيْرِ مَا يَخُصُّهُ فَلَيْسَ بِتَعْرِيفٍ، وَالْخَاصُّ بِهِ كَالْخَاصِّ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ لَا يَفِي بِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ، هَذَا فِي الْجَوْهَرِ، وَأَمَّا الْعَرَضُ؛ فَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِاللَّوَازِمِ؛ إِذْ لَمْ يَقْدِرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَيْضًا؛ مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ لَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَاتِيٌّ سِوَاهَا، وَلِلْمُنَازِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْحَادِّ أَنْ يَقُولَ‏:‏ لَوْ كَانَ ثَمَّ وَصْفٌ آخَرُ لَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ؛ إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الصِّفَاتِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا‏:‏ لَوْ كَانَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ آخَرُ مَا عُرِفَتِ الْمَاهِيَّةُ ‏[‏دُونَهُ‏]‏؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ إِذَا عُرِفَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ، حَصَلَ الشَّكُّ فِي مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّةِ‏.‏

فَظَهَرَ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى مَا شَرَطَهُ أَرْبَابُ الْحُدُودِ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَرَّرَ، وَهُوَ أَنَّ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا؛ فَتَسَوُّرُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَعْرِفَتِهَا رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، هَذَا كُلُّهُ فِي التَّصَوُّرِ‏.‏

وَأَمَّا ‏[‏فِي‏]‏ التَّصْدِيقِ؛ فَالَّذِي يَلِيقُ مِنْهُ بِالْجُمْهُورِ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الدَّلِيلِ فِيهِ ضَرُورِيَّةً أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الضَّرُورِيَّةِ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَقُوَّتِهِ‏.‏

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ طَلَبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَى أَمْثَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 58- 59‏]‏‏.‏

وَهَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى الدَّلِيلِ فِي التَّصْدِيقِ، وَإِلَّا فَتَقْرِيرُ الْحُكْمِ كَافٍ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ لِلْمُؤَالِفِ وَالْمُخَالِفِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَيْسَرَ الطُّرُقِ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى عُقُولِ الطَّالِبِينَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ مُتَكَلَّفٍ، وَلَا نَظْمٍ مُؤَلَّفٍ، بَلْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَلَا يُبَالُونَ كَيْفَ وَقَعَ فِي تَرْتِيبِهِ، إِذَا كَانَ قَرِيبَ الْمَأْخَذِ، سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى نَظْمِ الْأَقْدَمِينَ فِي التَّحْصِيلِ؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ إِيصَالَ الْمَقْصُودِ، لَا مِنْ حَيْثُ احْتِذَاءُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُرَتَّبًا عَلَى قِيَاسَاتٍ مُرَكَّبَةٍ أَوْ غَيْرِ مُرَكَّبَةٍ، إِلَّا أَنَّ فِي إِيصَالِهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْضَ التَّوَقُّفِ لِلْعَقْلِ؛ فَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ بِشَرْعِيٍّ، وَلَا تَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْلَفَةٌ لِلْعَقْلِ وَمَحَارَةٌ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بِخِلَافِ وَضْعِ التَّعْلِيمِ، وَلِأَنَّ الْمَطَالِبَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ وَقْتِيَّةٌ، فَاللَّائِقُ بِهَا مَا كَانَ فِي الْفَهْمِ وَقْتِيًّا، فَلَوْ وُضِعَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ غَيْرَ وَقْتِيٍّ؛ لَكَانَ مُنَاقِضًا لِهَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَاتِ لَيْسَتْ عَلَى فَنٍّ وَاحِدٍ، وَلَا هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى التَّسَاوِي فِي كُلِّ مَطْلَبٍ إِلَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا قَارَبَهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا يُعْتَدُّ بِهِ فَلَوْ وُضِعَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ هَذَا الْمَطْلَبُ، وَلَكَانَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا لَا عَامًّا، أَوْ أَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

الْمُقَدِّمَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏فِي الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ‏]‏

كُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَطَلَبُ الشَّارِعِ لَهُ إِنَّمَا يَكُونُ ‏[‏مِنْ‏]‏ حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ اعْتِبَارُ جِهَةٍ أُخْرَى فَبِالتَّبَعِ وَالْقَصْدِ الثَّانِي، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا‏:‏ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلُ أَنَّ كَلَّ عِلْمٍ لَا يُفِيدُ عَمَلًا؛ فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ؛ لَكَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرَعَا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرْعًا؛ لَبَحَثَ عَنْهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَمَا يَلْزَمُ عَنْهُ كَذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ بِالتَّعَبُّدِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 1- 2‏]‏‏.‏

‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيم‏:‏ 1‏]‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 1‏]‏؛ أَيْ يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 92‏]‏‏.‏

‏{‏لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 2- 3‏]‏‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى، كُلُّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُوتُوا بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏غَافِرٍ‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وَمَثَلُهُ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، لَا بُدَّ أَنْ أُعْقِبَتْ بِطَلَبِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ جُعِلَ مُقَدِّمَةً لَهَا، بَلْ أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ هَكَذَا جَرَى مَسَاقُ الْقُرْآنِ فِيهَا أَلَّا تُذْكَرَ إِلَّا كَذَلِكَ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ التَّعَبُّدَ لِلَّهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحْصَى‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ عَارِيَةٌ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 68‏]‏‏.‏

قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ يَعْنِي لَذُو عَمَلٍ بِمَا عَلَّمْنَاهُ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ‏}‏ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 9‏]‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 94‏]‏ قَالَ‏:‏ قَوْمٌ وَصَفَوُا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَخَالَفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ «إِنَّ فِي جَهَنَّمَ أَرْحَاءَ تَدُورُ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ‏:‏ مَا صَيَّرَكُمْ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْكُمْ، قَالُوا‏:‏ إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ وَنُخَالِفُكُمْ إِلَى غَيْرِهِ»‏.‏

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُتَّقَى اللَّهُ بِهِ‏.‏

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «لَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسِ خِصَالٍ، وَذَكَرَ فِيهَا‏:‏ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»‏.‏

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاء‏:‏ «إِنَّمَا أَخَافَ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَة‏:‏ أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ، فَأَقُولُ‏:‏ عَلِمْتُ، فَلَا تَبْقَى آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ إِلَّا جَاءَتْنِي تَسْأَلُنِي فَرِيضَتَهَا، فَتَسْأَلُنِي الْآمِرَةُ‏:‏ هَلِ ائْتَمَرْتَ‏؟‏ وَالزَّاجِرَةُ‏:‏ هَلِ ازْدُجِرْتَ‏؟‏ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، ‏[‏وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ‏]‏، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ‏.‏

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ فِيه‏:‏ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ‏:‏ مَا عَمِلْتَ فِيهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ، قَالَ‏:‏ كَذَّبْتَ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ‏:‏ فُلَانٌ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ»‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ‏.‏

وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ‏:‏ مَنْ حَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ الْعِلْمَ؛ عَذَّبَهُ عَلَى الْجَهْلِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْعَلَمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَمَنْ أَهْدَى اللَّهُ إِلَيْهِ عِلْمًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ‏:‏ اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا؛ فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ حَتَّى تَعْمَلُوا‏.‏

وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ‏:‏ «إِنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّعَايَةُ، وَإِنَّ السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّوَايَةُ»‏.‏

وَرُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا‏:‏ كُنَّا نَتَدَارَسُ الْعِلْمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ «تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ حَتَّى تَعْمَلُوا»‏.‏

وَكَانَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ لَهُ‏:‏ كُلُّ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ تَعْمَلُ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَمَا تَصْنَعُ بِازْدِيَادِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْكَ‏؟‏‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ قَوْلًا إِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مِنْ عَمَلٍ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلًا حَسَنًا فَرُوَيْدًا بِصَاحِبِهِ؛ فَإِنْ وَافَقَ قَوْلَهُ عَمَلُهُ، فَنِعْمَ وَنِعْمَةَ عَيْنٍ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ إِنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا الْقَوْلَ كُلَّهُمْ، فَمَنْ وَافَقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ حَظَّهُ، وَمَنْ خَالَفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ؛ فَإِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفْسَهُ‏.‏

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ‏:‏ إِنَّمَا يُطْلَبُ الْحَدِيثُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلِذَلِكَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ‏.‏

وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا يُعْجِبُهُمُ الْقَوْلُ، إِنَّمَا يُعْجِبُهُمُ الْعَمَلُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَقِّقُ أَنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ مِنَ الْوَسَائِلِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِهِ‏.‏

فَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْعِلْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ فَضْلُهُ، وَإِنَّ مَنَازِلَ الْعُلَمَاءِ فَوْقَ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛، وَكَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى فَضْلِهِ مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا؛ فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنَّهُ فَضِيلَةٌ مَقْصُودَةٌ لَا وَسِيلَةٌ، هَذَا وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً مِنْ وَجْهٍ، فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ أَيْضًا كَالْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى قَبُولِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ لَمْ يَثْبُتْ فَضْلُهُ مُطْلَقًا، بَلْ مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا، وَإِلَّا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ، وَتَنَاقَضَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ، وَأَقْوَالُ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَمَا ذُكِرَ آنِفًا شَارِحٌ لِمَا ذُكِرَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ؛ فَإِنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْأَعْمَالُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا وَسِيلَةً إِلَى الْبَعْضِ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً فِي أَنْفُسِهَا، أَمَّا الْعِلْمُ؛ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ، وَأَعْلَى ذَلِكَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ، وَلَا تَصِحُّ بِهِ فَضِيلَةٌ لِصَاحِبِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ بِمُقْتَضَاهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاللَّهِ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ مَعَ التَّكْذِيبِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي قَوْمٍ‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 20‏]‏‏.‏

فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعْرِفَةَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مُغَايِرٌ لِلْكُفْرِ‏.‏

نَعَمْ، قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ فَضِيلَةً، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَالْعِلْمِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَالْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ فِي التَّكْلِيفِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْخَارِجِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا حَسَنٌ، وَصَاحِبُ الْعِلْمِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَبَالِغٌ مُبَالِغَ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الِانْتِفَاعِ عِنْدَ وُجُودِ مَحَلِّهِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ وَسِيلَةً، كَمَا أَنَّ فِي تَحْصِيلِ الطِّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَضِيلَةً، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَعْدُ، أَوْ جَاءَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهَا لِعُذْرٍ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ تَطَهَّرَ عَلَى عَزِيمَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ثَوَابُ الطَّهَارَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ؛ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ، وَقَدْ وَجَدْنَا وَسَمِعْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ يَعْرِفُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَيَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُمْ مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏فَضْلُ الْعِلْمِ‏]‏

وَلَا يُنْكِرُ فَضْلَ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا جَاهِلٌ، وَلَكِنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلِيٌّ، وَقَصْدٌ تَابِعٌ‏.‏

فَالْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ‏.‏

وَأَمَّا التَّابِعُ؛ فَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ صَاحِبِهِ شَرِيفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِهِ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَاهِلَ دَنِيءٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ شَرِيفًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِي الْأَشْعَارِ وَالْأَبْشَارِ، وَحُكْمُهُ مَاضٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ؛ إِذْ قَامَ لَهُمْ مَقَامَ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ جَمَالٌ وَمَالٌ، وَرُتْبَةٌ لَا تُوَازِيهَا رُتْبَةٌ، وَأَهْلُهُ أَحْيَاءٌ أَبَدَ الدَّهْرِ،‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى سَائِرِ مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَاقِبِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَآثِرِ الْحَسَنَةِ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِلْمِ شَرْعًا، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَنَالُهُ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ لَذَّةً لَا تُوَازِيهَا لَذَّةٌ؛ إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَعْلُومِ، وَالْحَوْزِ لَهُ، وَمَحَبَّةُ الِاسْتِيلَاءِ قَدْ جُبِلَتْ عَلَيْهَا النُّفُوسُ، وَمُيِّلَتْ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ مَطْلَبٌ خَاصٌّ، بُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ، وَالِاسْتِقْرَاءُ الْعَامُّ، فَقَدْ يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُحَادَثَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْعُلُومُ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَجَالٌ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَطْرَافِهَا مُتَّسَعٌ، وَلِاسْتِنْبَاطِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ فِيهَا طَرِيقٌ مُتَّبَعٌ‏.‏

وَلَكِنْ كُلُّ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ التَّوَابِعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْقَصْدِ الْأَصْلِيِّ أَوْ لَا‏.‏

فَإِنْ كَانَ خَادِمًا لَهُ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْمَدْح‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِح‏:‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، وَقَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ حِينَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي هِيَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ النَّخْلَةُ‏:‏ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 84‏]‏‏.‏

فَكَذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لَهُ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً غَيْرُ صَحِيحٍ؛ كَتَعَلُّمِهِ رِيَاءً، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَ الْعِبَادِ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ دُنْيَاهُمْ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لَاحَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا طَلَبَ- زَهِدَ فِي التَّعَلُّمِ، وَرَغِبَ فِي التَّقَدُّمِ، وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِحْكَامُ مَا ابْتَدَأَ فِيهِ، وَأَنِفَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ، فَرَضِيَ بِحَاكِمِ عَقْلِهِ، وَقَاسَ بِجَهْلِهِ، فَصَارَ مِمَّنْ سُئِلَ فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَّلَ وَأَضَلَّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا لِتَحْتَازُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ فَالنَّارُ النَّارُ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَفِي بَعْضِ الْحَدِيث‏:‏ «سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ، فَقَالَ‏:‏ هُوَ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ يُرِيدُ أَنْ يُجْلَسَ إِلَيْهِ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 174‏]‏‏.‏

وَالْأَدِلَّةُ فِي الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ‏.‏

الْمُقَدِّمَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏مَرَاتِبُ أَهْلِ الْعِلْمِ‏]‏

الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا- أَعْنِي الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَهْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْعِلْمُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، الَّذِي لَا يُخَلِّي صَاحِبَهُ جَارِيًا مَعَ هَوَاهُ كَيْفَمَا كَانَ، بَلْ هُوَ الْمُقَيِّدُ لِصَاحِبِهِ بِمُقْتَضَاهُ، الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوَانِينِهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ‏:‏ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى‏:‏ الطَّالِبُونَ لَهُ وَلَمَّا يَحْصُلُوا عَلَى كَمَالِهِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي طَلَبِهِ فِي رُتْبَةِ التَّقْلِيدِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ؛ فَبِمُقْتَضَى الْحَمْلِ التَّكْلِيفِيِّ، وَالْحَثِّ التَّرْغِيبِيِّ، وَالتَّرْهِيبِيِّ، وَعَلَى مِقْدَارِ شِدَّةِ التَّصْدِيقِ يَخِفُّ ثِقَلُ التَّكْلِيفِ، فَلَا يَكْتَفِي الْعِلْمُ هَاهُنَا بِالْحَمْلِ دُونَ أَمْرٍ آخَرَ خَارِجَ مَقُولِهِ؛ مِنْ زَجْرٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، وَلَا احْتِيَاجَ هَاهُنَا إِلَى إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذِ التَّجْرِبَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ قَدْ أَعْطَتْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُرْهَانًا لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ‏.‏

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ الْوَاقِفُونَ مِنْهُ عَلَى بَرَاهِينِهِ، ارْتِفَاعًا عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتِبْصَارًا فِيهِ حَسْبَمَا أَعْطَاهُ شَاهِدُ النَّقْلِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ تَصْدِيقًا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ بَعْدُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَقْلِ لَا إِلَى النَّفْسِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْأَشْيَاءِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَالْعُلُومِ الْمَحْفُوظَةِ الَّتِي يَتَحَكَّمُ عَلَيْهَا الْعَقْلُ، وَعَلَيْهِ يُعْتَمَدُ فِي اسْتِجْلَابِهَا، حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جُمْلَةِ مُودَعَاتِهِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ، خَفَّ عَلَيْهِمْ خِفَّةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا؛ إِذْ هَؤُلَاءِ يَأْبَى لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُصَدَّقُ أَنْ يَكْذِبُوا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّكْذِيبِ الْخَفِيِّ الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَصِرْ لَهُمْ كَالْوَصْفِ رُبَّمَا كَانَتْ أَوْصَافُهُمُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ الْبَاعِثَةِ الْغَالِبَةِ- أَقْوَى الْبَاعِثِينَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ خَارِجٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي حَقِّهِمْ، فَلَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، بَلْ ثَمَّ أُمُورٌ أُخَرُ كَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَمُطَالَبَةِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بَلَغُوهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَيْضًا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَيْهَا مِنَ التَّجْرِبَةِ، إِلَّا أَنَّهَا أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ مَوْكُولٍ إِلَى ذَوِي النَّبَاهَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَخْذِ فِي الِاتِّصَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ‏.‏

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الَّذِينَ صَارَ لَهُمُ الْعِلْمُ وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ بِمَثَابَةِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْأُوَلِ، أَوْ تُقَارِبُهَا، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى طَرِيقِ حُصُولِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُخَلِّيهِمُ الْعِلْمُ وَأَهْوَاءَهُمْ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ رُجُوعَهُمْ إِلَى دَوَاعِيهِمُ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَوْصَافِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُتَرْجَمُ لَهَا‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

فَنَسَبَ هَذِهِ الْمَحَاسِنَ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ، لَا مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ قَدْ بَلَغُوا فِي عِلْمِ السِّحْرِ مَبْلَغَ الرُّسُوخِ فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، بَادَرُوا إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِيمَانِ حِينَ عَرَفُوا مِنْ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ لَيْسَ بِالسِّحْرِ، وَلَا الشَّعْوَذَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَلَا التَّعْذِيبُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 43‏]‏‏.‏

فَحَصَرَ تَعَقُّلَهَا فِي الْعَالِمِينَ، وَهُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏الرَّعْد‏:‏ 19‏]‏‏.‏

ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الرَّعْد‏:‏ 20‏]‏ إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْعَامِلُونَ‏.‏

وَقَالَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ- وَالْإِيمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 2- 4‏]‏‏.‏

وَمِنْ هُنَا قَرَنَ الْعُلَمَاءَ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 18‏]‏‏.‏

فَشَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفْقَ عِلْمِهِ ظَاهِرَةُ التَّوَافُقِ؛ إِذِ التَّخَالُفُ مُحَالٌ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمُوا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأُولُو الْعِلْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ؛ مِنْ حَيْثُ حُفِظُوا بِالْعِلْمِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَحْزَنَهُمْ ذَلِكَ وَأَقْلَقَهُمْ، حَتَّى يَسْأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَة‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 284‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وَإِنَّمَا الْقَلَقُ وَالْخَوْفُ مِنْ آثَارِ الْعِلْمِ بِالْمُنَزَّلِ‏.‏ وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ إِحْصَائِهَا هُنَا، وَجَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ أَوَّلًا‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَقَدِ اسْتَوَى أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَعَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا مُلْجِئُ إِلَيْهِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ؛ لَزِمَ أَنْ لَا يَعْصِيَ الْعَالِمُ إِذَا كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ تَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي، مَا عَدَا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا فِي أَعْلَى الْأُمُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّار‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ‏}‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ صَادًّا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ»‏.‏

وَفِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 159‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 174‏]‏‏.‏

وَحَدِيثُ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَالْأَدِلَّةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ غَيْرُ مَعْصُومِينَ بِعِلْمِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَمْنَعُهُمْ عَنْ إِتْيَانِ الذُّنُوبِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْعَلَمَ مَانِعٌ مِنَ الْعِصْيَانِ‏؟‏‏.‏ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّل‏:‏ أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ يَأْبَى لِلْعَالِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ، لِأَنَّ مَا صَارَ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لَا يَتَصَرَّفُ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ اعْتِيَادًا؛ فَإِنْ تَخَلَّفَ فَعَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مُجَرَّدُ الْعِنَادِ، فَقَدْ يُخَالَفُ فِيهِ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْجِبِلِّي، فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 14‏]‏، وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 109‏]‏، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

وَالْغَالِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا لِغَلَبَةِ هَوًى، مِنْ حُبِّ دُنْيَا أَوْ جَاهٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَكُونُ وَصْفُ الْهَوَى قَدْ غَمَرَ الْقَلْبَ حَتَّى لَا يَعْرِفَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرَ مُنْكَرًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْفَلَتَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْغَفَلَاتِ الَّتِي لَا يَنْجُو مِنْهَا الْبَشَرُ؛ فَقَدْ يَصِيرُ الْعَالِمُ بِدُخُولِ الْغَفْلَةِ غَيْرَ عَالِمٍ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وَمِثْلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَعْتَرِضُ نَحْوُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْجِبِلِّيَّةِ؛ فَقَدْ لَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ، وَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ؛ لِغَلَبَةِ فِكْرٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَتَرْتَفِعُ فِي الْحَالِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنُ حَتَّى يُصَابَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُولٍ عَلَى السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ، فَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ؛ فَلَمْ يَصِرِ الْعِلْمُ لَهُ وَصْفًا أَوْ كَالْوَصْفِ مَعَ عَدِّهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى غَلَطٍ فِي اعْتِقَادِ الْعَالِمِ فِي نَفْسِهِ أَوِ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ- إِلَى أَنْ قَالَ- اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا، ‏[‏فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏]‏؛ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَشَدُّهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ» الْحَدِيثَ، فَهَؤُلَاءِ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَةِ بِسَبَبِ ظَنِّ الْجَهْلِ عِلْمًا؛ فَلَيْسُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَلَا مِمَّنْ صَارَ لَهُمْ كَالْوَصْفِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حِفْظَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ؛ فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِمْ‏.‏

فَأَمَّا مَنْ خَلَا عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ حِفْظِ الْعِلْمِ حَسْبَمَا نَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى إِنَّ الْقَبِيلَةَ لَتَتَفَقَّهُ مِنْ عِنْدِ أَسْرِهَا، ‏[‏أَوْ قَالَ‏:‏ آخِرِهَا‏]‏ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ؛ فَهُمَا مَقْمُوعَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا أَوْ نَطَقَا قُمِعَا وَقُهِرَا وَاضْطُهِدَا» الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَكْثُرُ الْقُرَّاءُ، وَيَقِلُّ الْفُقَهَاءُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ- إِلَى أَنْ قَالَ-‏:‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجَادِلُ الْمُنَافِقُ الْمُشْرِكَ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ»‏.‏

وَعَنْ عَلِيٍّ‏:‏ يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ عَمِلَ، وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتُهُمْ، وَيُخَالِفُ عِلْمَهُمْ عَمَلُهُمْ، يَقْعُدُونَ حِلَقًا يُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْعَوِي وَلَا يَرْوِي، وَقَدْ يَرْوِي وَلَا يَرْعَوِي‏.‏

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاء‏:‏ لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا‏.‏

وَعَنِ الْحَسَن‏:‏ الْعَالِمُ الَّذِي وَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ، وَمَنْ خَالَفَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ فَذَلِكَ رَاوِيَةُ حَدِيثٍ سَمِعَ شَيْئًا فَقَالَهُ‏.‏

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ‏:‏ الْعُلَمَاءُ إِذَا عَلِمُوا عَمِلُوا، فَإِذَا عَمِلُوا شُغِلُوا، فَإِذَا شُغِلُوا فُقِدُوا، فَإِذَا فُقِدُوا طُلِبُوا، فَإِذَا طُلِبُوا هَرَبُوا‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ أَنْ يَفُوقَهُمْ فِي الْعَمَلِ‏.‏

وَعَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَلِمْتُمْ فَعَلِمْتُمْ وَلَمْ تَعْمَلُوا، فَوَاللَّهِ مَا ذَلِكُمْ بِعِلْمٍ‏.‏

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ‏:‏ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ‏.‏ وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ‏.‏

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ، وَمِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ خَشْيَةُ اللَّهِ‏.‏

وَالْآثَارُ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَبِمَا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ؛ فَلَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةٌ- وَالْفِقْهُ فِيمَا رَوَوْا أَمْرٌ آخَرُ- أَوْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ هَوًى غَطَّى عَلَى الْقُلُوبِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ‏.‏

عَلَى أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ- يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَن‏:‏ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا؛ فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ‏.‏

وَعَنْ مَعْمَرٍ؛ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ كَانَ يُقَالُ‏:‏ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يُصَيِّرَهُ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ‏:‏ طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ، ثُمَّ جَاءَتِ النِّيَّةُ بَعْدُ‏.‏

وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ‏:‏ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي كَلَامٍ آخَرَ‏:‏ كُنْتُ أَغْبِطُ الرَّجُلَ يُجْتَمَعُ حَوْلَهُ، وَيُكْتَبُ عَنْهُ، فَلَمَّا ابْتُلِيتُ بِهِ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي‏.‏

وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ؛ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يَقُولُ‏:‏ طَلَبْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لَقَدْ طَلَبَ أَقْوَامٌ الْعِلْمَ مَا أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ، فَمَا زَالَ بِهِمْ حَتَّى أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْعِلْمُ وَالْخَشْيَةُ‏]‏

وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، وَمَا هِيَ‏؟‏

وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَارِ أَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَشْيَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ، وَعَنْهُ عَبَّرَ فِي الْحَدِيثِ فِي‏:‏ «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ الْخُشُوعُ»، وَقَالَ مَالِكٌ‏:‏ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّهُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ، وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ نُورٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ‏:‏ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ‏.‏

وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ؛ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ طَرَفٌ فَرَاجِعْهُ إِنْ شِئْتَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏